فصل: سورة الشعراء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


سورة الشعراء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 22‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ‏(‏5‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏6‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ‏(‏11‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏12‏)‏ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏14‏)‏ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏17‏)‏ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ‏(‏18‏)‏ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏20‏)‏ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏21‏)‏ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏طسم‏}‏ قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي، وخلف بإمالة الطاء، وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفظين، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الباقون بالفتح مشبعاً‏.‏ وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من «طسن» في الميم وقرأ الأعمش وحمزة بإظهارها‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ الإدغام اختيار أبي عبيد، وأبي حاتم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى الزجاج في كتابه‏:‏ ‏"‏ فيما يجري وما لا يجري ‏"‏ أنه يجوز أن يقال‏:‏ «طاسين ميم» بفتح النون وضم الميم كما يقال‏:‏ هذا معدى كرب‏.‏ وقرأ عيسى ويروى عن نافع بكسر الميم على البناء‏.‏ وفي مصحف عبد الله بن مسعود ‏"‏ ط س م ‏"‏ هكذا حروفاً مقطعة، فيوقف على كل حرف وقفة يتميز بها عن غيره، وكذلك قرأ أبو جعفر، ومحله الرفع على الابتداء إن كان اسماً للسورة كما ذهب إليه الأكثر، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون في محل نصب بتقدير‏:‏ اذكر، أو اقرأ‏.‏ وأما إذا كان مسروداً على نمط التعديد كما تقدّم في غير موضع من هذا التفسير، فلا محلّ له من الإعراب‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه اسم من أسماء الله سبحانه، وقيل‏:‏ اسم من أسماء القرآن، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ ءَايَاتُ الكتاب المبين‏}‏ إلى السورة، ومحلها الرفع على أنها وما بعدها خبر للمبتدأ إن جعلنا ‏{‏طسم‏}‏ مبتدأ، وإن جعلناه خبراً لمبتدأ محذوف، فمحلها الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ‏{‏طسما‏}‏ والمراد بالكتاب هنا‏:‏ القرآن، والمبين‏:‏ المبين المظهر، أو البين الظاهر إن كان من أبان بمعنى بان‏.‏

‏{‏لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ‏}‏ أي قاتل نفسك ومهلكها ‏{‏أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ لعدم إيمانهم بما جئت به والبخع في الأصل‏:‏ أن يبلغ بالذبح النخاع بالنون‏:‏ قاموس، وهو عرق في القفا، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الكهف، وقرأ قتادة‏:‏ ‏"‏ باخع نفسك ‏"‏ بالإضافة‏.‏ قرأ الباقون بالقطع قال‏:‏ الفراء‏:‏ ‏"‏ أن ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أن لاَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ في موضع نصب‏:‏ لأنها جزاء قال النحاس‏:‏ وإنما يقال‏:‏ ‏"‏ إن ‏"‏ مكسورة لأنها جزء هكذا التعارف، والقول في هذا ما قاله الزجاج في كتابه في القرآن إنها في موضع نصب مفعول لأجله، والمعنى‏:‏ لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حريصاً على إيمان قومه شديد الأسف لما يراه من إعراضهم، وجملة‏:‏ ‏{‏إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءايَةً‏}‏ مستأنفة مسوقة لتعليل ما سبق من التسلية، والمعنى‏:‏ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان، ولكن قد سبق القضاء بأنا لا ننزل ذلك، ومعنى ‏{‏فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين‏}‏‏:‏ أنهم صاروا منقادين لها أي‏:‏ فتظلّ أعناقهم إلخ، قيل‏:‏ وأصله، فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير والتصوير، لأن الأعناق موضع الخضوع‏.‏

وقيل‏:‏ إنها لما وضعت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم، ووصفت بما يوصفون به‏.‏ قال عيسى بن عمر‏:‏ خاضعين، وخاضعة هنا سواء، واختاره المبرد، والمعنى‏:‏ أنها إذا ذلت رقابهم ذلوا، فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها، ويسوغ في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأوّل، ويخبر عن الثاني، ومنه قول الراجز‏:‏

طول الليالي أسرعت في نقضي *** طوين طولي وطوين عرضي

فأخبر عن الليالي، وترك الطول، ومنه قول جرير‏:‏

أرى مرّ السنين أخذن مني *** كما أخذ السرار من الهلال

وقال أبو عبيد والكسائي‏:‏ إن المعنى‏:‏ خاضعيها هم، وضعفه النحاس، وقال مجاهد‏:‏ أعناقهم‏:‏ كبراؤهم، قال النحاس‏:‏ وهذا معروف في اللغة، يقال‏:‏ جاءني عنق من الناس أي‏:‏ رؤساء منهم‏.‏ وقال أبو زيد والأخفش‏:‏ أعناقهم‏:‏ جماعاتهم، يقال‏:‏ جاءني عنق من الناس أي‏:‏ جماعة‏.‏

‏{‏وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ‏}‏ بيّن سبحانه أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان يأتيهم بالقرآن حالاً بعد حال، وأن لا يجدّد لهم موعظة وتذكيراً إلاّ جدّدوا ما هو نقيض المقصود، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء، و«من» في‏:‏ ‏{‏مّن ذِكْرِ‏}‏ مزيدة لتأكيد العموم، و‏"‏ من ‏"‏ في ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ لابتداء الغاية، والاستثناء مفرغ من أعمّ العامّ محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم، وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُواْ‏}‏ أي‏:‏ بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً صريحاً، ولم يكتفوا بمجرّد الإعراض، وقيل‏:‏ إن الإعراض بمعنى التكذيب، لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله، فقد كذّبه، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح، والأوّل أولى، فالإعراض عن الشيء‏:‏ عدم الالتفات إليه‏.‏ ثم انتقلوا عن هذا إلى ما هو أشدّ منه، وهو التصريح بالتكذيب، ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشدّ منه، وهو الاستهزاء كما يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أنباؤا مَا كَانُواْ بِه يَسْتَهْزِءونَ‏}‏، والأنباء هي‏:‏ ما يستحقونه من العقوبة آجلاً وعاجلاً‏.‏ وسمّيت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن، وقال‏:‏ ‏{‏مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏، ولم يقل‏:‏ ما كانوا عنه معرضين، أو ما كانوا به يكذّبون، لأن الاستهزاء أشدّ منهما، ومستلزم لهما، وفي هذا وعيد شديد، وقد مرّ تفسير مثل هذا في سورة الأنعام‏.‏

ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على كمال قدرته من الأمور الحسية التي يحصل بها للمتأمل فيها، والناظر إليها، والمستدلّ بها أعظم دليل، وأوضح برهان، فقال‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ الهمزة للتوبيخ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، فنبّه سبحانه على عظمته وقدرته، وأن هؤلاء المكذبين المستهزئين لو نظروا حق النظر لعلموا أنه سبحانه الذي يستحق أن يعبد، والمراد بالزوج هنا‏:‏ الصنف‏.‏

وقال الفراء‏:‏ هو اللون، وقال الزجاج‏:‏ معنى زوج نوع، وكريم‏:‏ محمود، والمعنى‏:‏ من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته إلاّ ربّ العالمين، والكريم في الأصل‏:‏ الحسن الشريف، يقال‏:‏ نخلة كريمة‏:‏ أي كثيرة الثمرة، ورجل كريم‏:‏ شريف فاضل، وكتاب كريم‏:‏ إذا كان مرضياً في معانيه، والنبات الكريم هو المرضي في منافعه، قال الشعبي‏:‏ الناس مثل نبات الأرض، فمن صار منهم إلى الجنة، فهو كريم، ومن صار منهم إلى النار، فهو لئيم، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ إلى المذكور قبله أي‏:‏ إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالة بينة، وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه، وبديع صنعته، ثم أخبر سبحانه‏:‏ بأن أكثر هؤلاء مستمرّ على ضلالته مصمم على جحوده، وتكذيبه، واستهزائه، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ سبق علمي فيهم أنهم سيكونون هكذا، وقال سيبويه‏:‏ إن ‏{‏كان‏}‏ هنا صلة ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ أي‏:‏ الغالب القاهر لهؤلاء بالانتقام منهم مع كونه كثير الرحمة، ولذلك أمهلهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة، أو المعنى‏:‏ أنه منتقم من أعدائه رحيم بأوليائه‏.‏

وجملة ‏{‏وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى‏}‏ إلخ، مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض، والتكذيب، والاستهزاء، والعامل في الظرف محذوف تقديره‏:‏ واتل إذ نادى أو اذكر، والنداء‏:‏ الدعاء، و«أن» في قوله‏:‏ ‏{‏أَنِ ائت القوم الظالمين‏}‏ يجوز أن تكون مفسرة، وأن تكون مصدرية، ووصفهم بالظلم‏.‏ لأنهم جمعوا بين الكفر الذي ظلموا به أنفسهم وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم كاستعباد بني إسرائيل، وذبح أبنائهم‏.‏ وانتصاب ‏{‏قَوْمِ فِرْعَونَ‏}‏ على أنه بدل، أو عطف بيان من القوم الظالمين، ومعنى ‏{‏أَلا يَتَّقُونَ‏}‏‏:‏ ألا يخافون عقاب الله سبحانه، فيصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته وقيل المعنى‏:‏ قل لهم‏:‏ ألا تتقون‏؟‏ وجاء بالياء التحتية لأنهم غيب وقت الخطاب، وقرأ عبيد بن عمير، وأبو حازم‏:‏ ‏"‏ ألا تتقون ‏"‏ بالفوقية‏:‏ أي‏:‏ قل لهم ذلك، ومثله‏:‏ ‏{‏قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 12‏]‏ بالتحتية والفوقية‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ إِنّي أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ‏}‏ أي قال موسى هذه المقالة، والمعنى‏:‏ أخاف أن يكذبوني في الرسالة ‏{‏وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي‏}‏ معطوفان على ‏{‏أخاف‏}‏ أي يضيق صدري لتكذيبهم إياي، ولا ينطلق لساني بتأدية الرسالة، قرأ الجمهور برفع ‏{‏يَضِيقُ‏}‏، ‏{‏ولا ينطلق‏}‏ بالعطف على ‏{‏أخاف‏}‏ كما ذكرنا، أو على الاستئناف، وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر وأبو حيوة بنصبهما عطفاً على ‏{‏يكذبون‏}‏‏.‏

قال الفراء‏:‏ كلا القراءتين له وجه، قال النحاس الوجه‏.‏ الرفع، لأن النصب عطف على ‏{‏يكذبون‏}‏ وهذا بعيد ‏{‏فَأَرْسِلْ إلى هارون‏}‏ أي‏:‏ أرسل إليه جبريل بالوحي ليكون معي رسولاً موازراً مظاهراً معاوناً، ولم يذكر الموازرة هنا، لأنها معلومة من غير هذا الموضع، كقوله في طه‏:‏ ‏{‏واجعل لّي وَزِيراً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 29‏]‏، وفي القصص ‏{‏أُرْسِلَهُ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدّقُنِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وهذا من موسى عليه السلام من باب طلب المعاونة له بإرسال أخيه، لا من باب الاستعفاء من الرسالة، ولا من التوقف عن المسارعة بالامتثال‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ‏}‏ الذنب هو قتله للقبطي، وسماه ذنباً بحسب زعمهم، فخاف موسى أن يقتلوه به‏.‏ وفيه دليل على أن الخوف قد يحصل مع الأنبياء فضلاً عن الفضلاء‏.‏

ثم أجابه سبحانه بما يشتمل على نوع من الردع وطرف من الزجر ‏{‏قَالَ كَلاَّ فاذهبا بئاياتنا‏}‏ وفي ضمن هذا الجواب إجابة موسى إلى ما طلبه من ضم أخيه إليه كما يدلّ عليه توجيه الخطاب إليهما كأنه قال‏:‏ ارتدع يا موسى عن ذلك، واذهب أنت ومن استدعيته، ولا تخف من القبط ‏{‏إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ‏}‏، وفي هذا تعليل للردع عن الخوف، وهو كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏، وأراد بذلك سبحانه تقوية قلوبهما، وأنه متولّ لحفظهما، وكلاءتهما، وأجراهما مجرى الجمع فقال‏:‏ ‏{‏مَّعَكُمْ‏}‏ لكون الاثنين أقلّ الجمع على ما ذهب إليه بعض الأئمة، أو لكونه أراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه، ويجوز أن يكون المراد‏:‏ هما مع بني إسرائيل، و‏{‏معكم‏}‏، و‏{‏مستمعون‏}‏ خبران لأنّ، أو الخبر ‏{‏مستمعون‏}‏، و‏{‏معكم‏}‏ متعلق به، ولا يخفى ما في المعية من المجاز، لأن المصاحبة من صفات الأجسام، فالمراد‏:‏ معية النصرة والمعونة ‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين‏}‏ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ووحد الرسول هنا، ولم يثنه كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 47‏]‏؛ لأنه مصدر بمعنى‏:‏ رسالة، والمصدر يوحد، وأما إذا كان بمعنى المرسل، فإنه يثنى مع المثنى، ويجمع مع الجمع، قال أبو عبيدة‏:‏ رسول بمعنى رسالة، والتقدير على هذا‏:‏ إنا ذوا رسالة ربّ العالمين، ومنه قول الشاعر‏:‏

ألا أبلغ أبا عمرو رسولا *** فإني عن فتاحتكم غنى

أي‏:‏ رسالة‏.‏ وقال العباس بن مرداس‏:‏

ألا من مبلغ عني خفافا *** رسولا بيت أهلك منتهاها

أي‏:‏ رسالة‏.‏ قال أبو عبيدة أيضاً، ويجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع، تقول العرب‏:‏ هذا رسولي ووكيلي، وهذان‏:‏ رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 77‏]‏ وقيل معناه‏:‏ إن كل واحد منا رسول رب العالمين، وقيل‏:‏ إنهما لما كانا متعاضدين متساندين في الرسالة كانا بمنزلة رسول واحد، و«أن» في قوله‏:‏ ‏{‏أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسراءيل‏}‏ مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول، معنى القول‏:‏ ‏{‏قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً‏}‏ أي قال فرعون لموسى بعد أن أتياه، وقالا له ما أمرهما الله به، ومعنى ‏{‏فينا‏}‏‏:‏ أي في حجرنا ومنازلنا، أراد بذلك المنّ عليه، والاحتقار له أي ربيناك لدينا صغيراً، ولم نقتلك فيمن قتلنا من الأطفال‏.‏

‏{‏وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ‏}‏ فمتى كان هذا الذي تدّعيه‏؟‏ قيل‏:‏ لبث فيهم ثماني عشرة سنة، وقيل‏:‏ ثلاثين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ أربعين سنة‏.‏ ثم قرّرت بقتل القبطي، فقال‏:‏ ‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ‏}‏ الفعلة بفتح الفاء‏:‏ المرّة من الفعل، وقرأ الشعبي‏:‏ «فعلتك» بكسر الفاء، والفتح أولى؛ لأنها للمرّة الواحدة لا للنوع، والمعنى‏:‏ أنه لما عدّد عليه النعم ذكر له ذنوبه، وأراد بالفعل قتل القبطي، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَنتَ مِنَ الكافرين‏}‏ أي من الكافرين للنعمة حيث قتلت رجلاً من أصحابي، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ من الكافرين بأن فرعون إله، وقيل‏:‏ من الكافرين بالله في زعمه؛ لأنه كان معهم على دينهم، والجملة في محل نصب على الحال‏.‏

‏{‏قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين‏}‏ أي قال موسى مجيباً لفرعون‏:‏ فعلت هذه الفعلة التي ذكرت، وهي قتل القبطي، وأنا إذ ذاك من الضالين أي‏:‏ الجاهلين‏.‏ فنفى عليه السلام عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل قبل أن يأتيه العلم الذي علمه الله، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ من الجاهلين أن تلك الوكزة تبلغ القتل، وقال أبو عبيدة‏:‏ من الناسين ‏{‏فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص ‏{‏فَوَهَبَ لِي رَبّي حُكْماً‏}‏ أي نبوّة أو علماً وفهماً‏.‏ وقال الزّجاج‏:‏ المراد بالحكم تعليمه التوراة التي فيها حكم الله ‏{‏وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسراءيل‏}‏ قيل‏:‏ هذا الكلام من موسى على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه قال‏:‏ نعم تلك التربية نعمة تمنّ بها عليّ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي، وبهذا قال الفراء وابن جرير‏.‏ وقيل‏:‏ هو من موسى على جهة الإنكار‏:‏ أي‏:‏ أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليداً، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم، وهم قومي‏؟‏ قال الزجاج‏:‏ المفسّرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار‏:‏ بأن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى، واللفظ لفظ خبر، وفيه تبكيت للمخاطب على معنى‏:‏ أنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي في اليمّ، فكأنك تمنّ عليّ ما كان بلاؤك سبباً له، وذكر نحوه الأزهري بأبسط منه، وقال المبرد‏:‏ يقول التربية كانت بالسبب الذي ذكرت من التعبيد أي تربيتك إياي كانت لأجل التملك، والقهر لقومي، وقيل‏:‏ إن في الكلام تقدير الاستفهام أي أو تلك نعمة‏؟‏ قاله الأخفش، وأنكره النحاس‏.‏ قال الفراء‏:‏ ومن قال‏:‏ إن الكلام إنكار قال معناه‏:‏ أو تلك نعمة‏؟‏ ومعنى ‏{‏أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسراءيل‏}‏‏:‏ أن اتخذتهم عبيداً، يقال‏:‏ عبدته وأعبدته بمعنى، كذا قال الفراء، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف بدل من نعمة، والجر بإضمار الباء، والنصب بحذفها‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس ‏{‏فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين‏}‏ قال‏:‏ ذليلين‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ‏}‏ قال‏:‏ قتل النفس‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكافرين‏}‏ قال‏:‏ للنعمة، وإن فرعون لم يكن ليعلم ما الكفر‏؟‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين‏}‏ قال‏:‏ من الجاهلين‏.‏ وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد‏:‏ ‏{‏أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسراءيل‏}‏ قال‏:‏ قهرتهم واستعملتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 51‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏24‏)‏ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏26‏)‏ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ‏(‏27‏)‏ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏31‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏32‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏33‏)‏ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏35‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏36‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ‏(‏37‏)‏ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏38‏)‏ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ‏(‏39‏)‏ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏40‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏41‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏43‏)‏ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏45‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

لما سمع فرعون قول موسى وهارون‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين‏}‏ قال مستفسراً لهما عن ذلك عازماً على الاعتراض لما قالاه فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّ العالمين‏}‏ أيّ شيء هو‏؟‏ جاء في الاستفهام بما التي يستفهم بها عن المجهول، ويطلب بها تعيين الجنس، فلما قال فرعون ذلك قَالَ موسى ‏{‏رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏، فعين له ما أراد بالعالمين، وترك جواب ما سأل عنه فرعون؛ لأنه سأله عن جنس ربّ العالمين، ولا جنس له، فأجابه موسى بما يدلّ على عظيم القدرة الإلهية التي تتضح لكل سامع أنه سبحانه الربّ، ولا ربّ غيره ‏{‏إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ‏}‏ أي إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء، فهذا أولى بالإيقان‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ فرعون ‏{‏لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ‏}‏ أي لمن حوله من الأشراف ألا تستمعون ما قاله‏؟‏ يعني‏:‏ موسى معجباً لهم من ضعف المقالة كأنه قال‏:‏ أتسمعون وتعجبون‏؟‏ وهذا من اللعين مغالطة، لما لم يجد جواباً عن الحجة التي أوردها عليه موسى‏.‏

فلما سمع موسى ما قال فرعون، أورد عليه حجة أخرى هي مندرجة تحت الحجة الأولى، ولكنها أقرب إلى فهم السامعين له ففال‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الأولين‏}‏، فأوضح لهم أن فرعون مربوب لا ربّ كما يدّعيه، والمعنى‏:‏ أن هذا الربّ الذي أدعوكم إليه هو الذي خلق آباءكم الأوّلين، وخلقكم، فكيف تعبدون من هو واحد منكم مخلوق كخلقكم، وله آباء قد فنوا كآبائكم‏؟‏ فلم يجبه فرعون عند ذلك بشيء يعتدّ به، بل جاء بما يشكك قومه، ويخيل إليهم أن هذا الذي قاله موسى مما لا يقوله العقلاء، فقال ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ قاصداً بذلك المغالطة، وإيقاعهم في الحيرة، مظهراً أنه مستخفّ بما قاله موسى مستهزئ به، فأجابه موسى عند ذلك بما هو تكميل لجوابه الأوّل، فقال ‏{‏رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ ولم يشتغل موسى بدفع ما نسبه إليه من الجنون، بل بين لفرعون شمول ربوبية الله سبحانه للمشرق والمغرب وما بينهما، وإن كان ذلك داخلاً تحت ربوبيته سبحانه للسماوات والأرض وما بينهما، لكن فيه تصريح بإسناد حركات السماوات وما فيها، وتغيير أحوالها وأوضاعها، تارة بالنور وتارة بالظلمة إلى الله سبحانه، وتثنية الضمير في‏:‏ ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ الأوّل لجنسي السموات والأرض كما في قول الشاعر‏:‏

تنقلت في أشرف التنقل *** بين رماحي مالك ونهشل

‏{‏إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي شيئاً من الأشياء، أو إن كنتم من أهل العقل أي إن كنت يا فرعون، ومن معك من العقلاء عرفت، وعرفوا أنه لا جواب لسؤالك إلاّ ما ذكرت لك‏.‏ ثم إن اللعين لما انقطع عن الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب، فقال‏:‏ ‏{‏لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين‏}‏ أي لأجعلنك من أهل السجن، وكان سجن فرعون أشدّ من القتل؛ لأنه إذا سجن أحداً لم يخرجه حتى يموت، فلما سمع موسى عليه السلام ذلك لاطفه طمعاً في إجابته وإرخاء لعنان المناظرة معه، مريداً لقهره بالحجة المعتبرة في باب النبوّة، وهي إظهار المعجزة، فعرض له على وجه يلجئه إلى طلب المعجزة فقال ‏{‏أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيء مُّبِينٍ‏}‏ أي أتجعلني من المسجونين، ولو جئتك بشيء يتبين به صدقي ويظهر عنده صحة دعواي‏؟‏ والهمزة هنا للاستفهام، والواو للعطف على مقدّر كما مرّ مراراً، فلما سمع فرعون ذلك طلب ما عرضه عليه موسى فقال‏:‏ ‏{‏فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في دعواك، وهذا الشرط جوابه محذوف، لأنه قد تقدّم ما يدلّ عليه، فعند ذلك أبرز موسى المعجزة‏.‏

‏{‏فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ وقد تقدّم تفسير هذا وما بعده في سورة الأعراف، واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء في الأرض، فانثعب أي‏:‏ فجرته، فانفجر، وقد عبّر سبحانه في موضع آخر مكان الثعبان بالحية بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 21‏]‏، وفي موضع بالجانّ، فقال‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهَا جَانٌّ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 10‏]‏، والجانّ هو المائل إلى الصغر، والثعبان هو المائل إلى الكبر، والحية جنس يشمل الكبير والصغير، ومعنى ‏{‏فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏‏:‏ ما رأيكم فيه، وما مشورتكم في مثله‏؟‏ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألفاً لهم، واستجلاباً لمودّتهم، لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال، وقارب ما كان يغرّر به عليهم الاضمحلال، وإلاّ، فهو أكبر تيها، وأعظم كبراً من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة المشعرة بأنه فرد من أفرادهم، وواحد منهم، مع كونه قبل هذا الوقت يدّعي أنه إلههم ويذعنون له بذلك ويصدّقونه في دعواه، ومعنى ‏{‏أَرْجِهْ وَأَخَاهُ‏}‏‏:‏ أخر أمرهما، من أرجأته إذا أخرته، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ احبسهما ‏{‏وابعث فِي المدائن حاشرين‏}‏، وهم الشرط الذين يحشرون الناس أي يجمعونهم ‏{‏يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ‏}‏ هذا ما أشاروا به عليه، والمراد بالسحار العليم‏:‏ الفائق في معرفة السحر وصنعته‏.‏

‏{‏فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ هو يوم الزينة كما في قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 59‏]‏ ‏{‏وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ‏}‏ حثاً لهم على الاجتماع ليشاهدوا ما يكون من موسى والسحرة، ولمن تكون الغلبة، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور، وطلباً أن يكون بمجمع من الناس حتى لا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع ذلك من موسى الموقع الذي يريده؛ لأنه يعلم أن حجة الله هي الغالبة، وحجة الكافرين هي الداحضة، وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين، والانقهار للمبطلين، ومعنى ‏{‏لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة‏}‏‏:‏ نتبعهم في دينهم ‏{‏إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين‏}‏، والمراد باتباع السحرة في دينهم هو‏:‏ البقاء على ما كانوا عليه؛ لأنه دين السحرة إذ ذاك، والمقصود المخالفة لما دعاهم إليه موسى، فعند ذلك طلب السحرة من فرعون الجزاء على ما سيفعلونه فقالوا لفرعون‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَنَا لأَجْرًا‏}‏ أي لجزاء تجزينا به من مال أو جاه، وقيل‏:‏ أرادوا إن لنا ثواباً عظيماً، ثم قيّدوا ذلك بظهور غلبتهم لموسى، فقالوا‏:‏ ‏{‏إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين‏}‏، فوافقهم فرعون على ذلك، ‏{‏نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ المقربين‏}‏ أي نعم لكم ذلك عندي مع زيادة عليه، وهي كونكم من المقرّبين لديّ‏.‏

‏{‏قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ‏}‏، وفي آية أخرى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 115‏]‏، فيحمل ما هنا على أنه قال لهم‏:‏ ألقوا بعد أن قالوا هذا القول، ولم يكن ذلك من موسى عليه السلام أمراً لهم بفعل السحر، بل أراد أن يقهرهم بالحجة، ويظهر لهم أن الذي جاء به ليس هو من الجنس الذي أرادوا معارضته به ‏{‏فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ‏}‏ عند الإلقاء ‏{‏بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون‏}‏ يحتمل قولهم‏:‏ ‏{‏بعزّة فرعون‏}‏ وجهين‏:‏ الأوّل‏:‏ أنه قسم، وجوابه إنا لنحن الغالبون، والثاني‏:‏ متعلق بمحذوف، والباء للسببية أي‏:‏ نغلب بسبب عزّته، والمراد بالعزّة‏:‏ العظمة ‏{‏فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ قد تقدّم تفسير هذا مستوفًى‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها تلقف ما صدر منهم من الإفك بإخراج الشيء عن صورته الحقيقية ‏{‏فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين‏}‏ أي لما شاهدوا ذلك، وعلموا أنه صنع صانع حكيم ليس من صنيع البشر، ولا من تمويه السحرة، آمنوا بالله، وسجدوا له، وأجابوا دعوة موسى، وقبلوا نبوّته، وقد تقدّم بيان معنى ‏{‏ألقى‏}‏، ومن فاعله لوقوع التصريح به، وعند سجودهم ‏{‏قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبّ العالمين * رَبّ موسى وهارون‏}‏ ربّ موسى عطف بيان لربّ العالمين، وأضافوه سبحانه إليهما؛ لأنهما القائمان بالدعوة في تلك الحال‏.‏ وفيه تبكيت لفرعون بأنه ليس بربّ، وأن الربّ في الحقيقة هو هذا‏.‏

فلما سمع فرعون ذلك منهم، ورأى سجودهم لله قال‏:‏ ‏{‏ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بغير إذن مني، ثم قال مغالطاً للسحرة الذين آمنوا، وموهماً للناس أن فعل موسى سحر من جنس ذلك السحر‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر‏}‏ وإنما اعترف له بكونه كبيرهم مع كونه لا يحبّ الاعتراف بشيء يرتفع به شأن موسى؛ لأنه قد علم كل من حضر أن ما جاء به موسى أبهر مما جاء به السحرة، فأراد أن يشكك على الناس بأن هذا الذي شاهدتم، وإن كان قد فاق على ما فعله هؤلاء السحرة، فهو فعل كبيرهم، ومن هو أستاذهم الذي أخذوا عنه هذه الصناعة، فلا تظنوا أنه فعل لا يقدر عليه البشر، وأنه من فعل الربّ الذي يدعو إليه موسى‏.‏

ثم توعد أولئك السحرة الذين آمنوا بالله لما قهرتهم حجة الله، فقال‏:‏ ‏{‏فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أجمل التهديد أوّلاً للتهويل، ثم فصله، فقال‏:‏ ‏{‏لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏، فلما سمعوا ذلك من قوله قالوا‏:‏ ‏{‏لاَ ضَيْرَ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ‏}‏ أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عقاب الدنيا؛ فإن ذلك يزول وننقلب بعده إلى ربنا فيعطينا من النعيم الدائم ما لا يحدّ ولا يوصف‏.‏ قال الهروي‏:‏ لا ضير، ولا ضرر، ولا ضرّ بمعنى واحد، وأنشد أبو عبيدة‏:‏

فإنك لا يضرك بعد حول *** أظبي كان أمك أم حمار

قال الجوهري‏:‏ ضاره يضوره، ويضيره ضيراً، وضوراً أي ضرّه‏.‏ قال الكسائي‏:‏ سمعت بعضهم يقول‏:‏ لا ينفعني ذلك ولا يضورني‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خطايانا‏}‏، ثم عللوا هذا بقولهم‏:‏ ‏{‏أَن كُنَّا أَوَّلَ المؤمنين‏}‏ بنصب أن أي لأن كنا أوّل المؤمنين‏.‏ وأجاز الفراء، والكسائي كسرها على أن يكون مجازاة، ومعنى ‏{‏أَوَّلُ المؤمنين‏}‏‏:‏ أنهم أوّل من آمن من قوم فرعون بعد ظهور الآية‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أول مؤمني زمانهم، وأنكره الزجاج، وقال‏:‏ قد روي أنه آمن معهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً، وهم الشرذمة القليلون الذين عناهم فرعون بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ يقول‏:‏ مبين‏:‏ له خلق حية ‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ‏}‏ يقول، وأخرج موسى يده من جيبه ‏{‏فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء‏}‏ تلمع ‏{‏للناظرين‏}‏‏:‏ لمن ينظر إليها ويراها‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ‏}‏ قال‏:‏ كانوا بالإسكندرية‏.‏ قال‏:‏ ويقال‏:‏ بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة يومئذٍ‏.‏ قال‏:‏ وهربوا، وأسلموا فرعون، وهمت به فقال‏:‏ خذها يا موسى، وكان مما بلى الناس به منه أنه كان لا يضع على الأرض شيئاً أي يوهمهم أنه لا يحدث فأحدث يومئذٍ تحته‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ ضَيْرَ‏}‏ قال‏:‏ يقولون‏:‏ لا يضيرنا الذي تقول وإن صنعت بنا وصلبتنا ‏{‏إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ‏}‏ يقولون‏:‏ إنا إلى ربنا راجعون، وهو مجازينا بصبرنا على عقوبتك إيانا وثباتنا على توحيده والبراءة من الكفر وفي قوله‏:‏ ‏{‏أَن كُنَّا أَوَّلَ المؤمنين‏}‏ قالوا‏:‏ كانوا كذلك يومئذٍ أوّل من آمن بآياته حين رأوها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 68‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏52‏)‏ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ‏(‏54‏)‏ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ‏(‏55‏)‏ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ‏(‏56‏)‏ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏57‏)‏ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏62‏)‏ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ‏(‏63‏)‏ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ ‏(‏64‏)‏ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏65‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏66‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏67‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي‏}‏ أمر الله سبحانه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً، وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى وبما جاء به، وقد تقدّم تفسير مثل هذا في سورة الأعراف، وجملة ‏{‏إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ‏}‏ تعليل للأمر المتقدّم أي‏:‏ يتبعكم فرعون وقومه ليردّوكم، و‏{‏فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدائن حاشرين‏}‏، وذلك حين بلغه مسيرهم، والمراد بالحاشرين‏:‏ الجامعون للجيش من الأمكنة التي فيها أتباع فرعون، ثم قال فرعون لقومه بعد اجتماعهم لديه‏:‏ ‏{‏إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏ يريد‏:‏ بني إسرائيل‏.‏ والشرذمة الجمع الحقير القليل، والجمع شراذم‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الشرذمة الطائفة من الناس، والقطعة من الشيء، وثوب شراذم أي قطع، ومنه قول الشاعر‏:‏

جاء الشتاء وقميصي أخلاق *** شراذم يضحك منها الخلاق

قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ عصبة قليلة وقليلون وكثيرة وكثيرون‏.‏ قال المبرّد‏:‏ الشرذمة القطعة من الناس غير الكثير، وجمعها الشراذم، قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ وكان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ‏}‏ يقال‏:‏ غاظني كذا وأغاظني‏.‏ والغيظ‏:‏ الغضب، ومنه التغيظ، والاغتياظ أي غاظونا بخروجهم من غير إذن مني ‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون‏}‏ قرئ‏:‏ ‏{‏حذرون‏}‏، و‏{‏حاذرون‏}‏ و«حذرون» بضم الذال، حكى ذلك الأخفش‏.‏ قال الفراء‏:‏ الحاذر‏:‏ الذي يحذرك الآن، والحذر‏:‏ المخلوق كذلك لا تلقاه إلاّ حذراً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الحاذر‏:‏ المستعد، والحذر‏:‏ المتيقظ، وبه قال الكسائي ومحمد بن يزيد، قال النحاس‏:‏ ‏{‏حذرون‏}‏ قراءة المدنيين، وأبي عمرو، و‏{‏حاذرون‏}‏ قراءة أهل الكوفة‏.‏ قال‏:‏ وأبو عبيدة يذهب إلى أن معنى حذرون، وحاذرون واحد، وهو قول سيبويه، وأنشد سيبويه‏:‏

حذر أموراً لا تضير وحاذر *** ما ليس ينجيه من الأقدار

‏{‏فأخرجناهم مّن جنات وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ فرعون وقومه أخرجهم الله من أرض مصر وفيها الجنات والعيون والكنوز وهي جمع جنة وعين، وكنز، والمراد بالكنوز‏:‏ الخزائن‏.‏ وقيل‏:‏ الدفائن، وقيل‏:‏ الأنهار، وفيه نظر؛ لأن العيون المراد بها عند جمهور المفسرين‏:‏ عيون الماء، فيدخل تحتها الأنهار‏.‏ واختلف في المقام الكريم؛ فقيل‏:‏ المنازل الحسان‏.‏ وقيل‏:‏ المنابر، وقيل‏:‏ مجالس الرؤساء والأمراء‏.‏ وقيل‏:‏ مرابط الخيل‏.‏ والأوّل أظهر، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

وفيهم مقامات حسان وجوهها *** وأندية ينتابها القول والفعل

‏{‏كَذَلِكَ وأورثناها بَنِي إسراءيل‏}‏ يحتمل أن يكون ‏{‏كذلك‏}‏ في محل نصب أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا، ويحتمل أن يكون في محل جرّ على الوصفية أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، ويحتمل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك‏.‏ ومعنى ‏{‏وأورثناها بَنِي إسراءيل‏}‏‏:‏ جعلناها ملكاً لهم، وهو معطوف على ‏{‏فأخرجناهم‏}‏ ‏{‏فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ‏}‏ قراءة الجمهور بقطع الهمزة، وقرأ الحسن والحارث الديناري بوصلها، وتشديد التاء، أي فلحقوهم حال كونهم مشرقين أي داخلين في وقت الشروق، يقال‏:‏ شرقت الشمس شروقاً إذا طلعت كأصبح وأمسى أي دخل في هذين الوقتين‏.‏

وقيل‏:‏ داخلين نحو المشرق كأنجد وأتهم‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏مُشْرِقِينَ‏}‏‏:‏ مضيئين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ شرقت الشمس‏:‏ إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت‏.‏

‏{‏فَلَمَّا تَرَاءا الجمعان‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تراءى‏}‏ بتخفيف الهمزة، وقرأ ابن وثاب والأعمش من غير همز، والمعنى‏:‏ تقابلا بحيث يرى كلّ فريق صاحبه، وهو تفاعل من الرؤية، وقرئ‏:‏ ‏"‏ تراءت الفئتان ‏"‏ ‏{‏قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏ أي سيدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا بهم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إنا لمدركون‏}‏ اسم مفعول من أدرك، ومنه ‏{‏حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏‏.‏ وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدال مشدّدة وكسر الراء‏.‏ قال الفراء‏:‏ هما بمعنى واحد‏.‏ قال النحاس‏:‏ ليس كذلك يقول النحويون الحذاق، إنما يقولون‏:‏ مدركون بالتخفيف ملحقون وبالتشديد مجتهدون في لحاقهم‏.‏ قال‏:‏ وهذا معنى قول سيبويه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إن معنى هذه القراءة‏:‏ إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد‏.‏

‏{‏قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ‏}‏ قال موسى هذه المقالة زجراً لهم وردعاً، والمعنى‏:‏ أنهم لا يدركونكم، وذكرهم وعد الله بالهداية والظفر، والمعنى‏:‏ إن معي ربي بالنصر والهداية، سيهدين أي‏:‏ يدلني على طريق النجاة، فلما عظم البلاء على بني إسرائيل، ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم به، أمر الله سبحانه موسى أن يضرب البحر بعصاه، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر‏}‏ لما قال موسى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ‏}‏ بيّن الله سبحانه له طريق الهداية، فأمره بضرب البحر، وبه نجا بنو إسرائيل، وهلك عدوّهم، والفاء في ‏{‏فانفلق‏}‏ فصيحة‏:‏ أي فضرب فانفلق فصار اثني عشر فلقاً بعدد الأسباط، وقام الماء عن يمين الطريق وعن يساره كالجبل العظيم، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم‏}‏، والفرق‏:‏ القطعة من البحر، وقرئ‏:‏ ‏"‏ فلق ‏"‏ بلام بدل الراء، والطود‏:‏ الجبل قال امرؤ القيس‏:‏

فبينا المرء في الأحياء طود *** رماه الناس عن كثب فمالا

وقال الأسود بن يعفر‏:‏

حلوا بأنقرة يسيل عليهم *** ماء الفرات يجيء من أطواد

‏{‏وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين‏}‏ أي قرّبناهم إلى البحر يعني‏:‏ فرعون وقومه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وكلّ يوم مضى أو ليلة سلفت *** فيها النفوس إلى الآجال تزدلف

قال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏أزلفنا‏}‏‏:‏ جمعنا، ومنه قيل لليلة المزدلفة‏:‏ ليلة جمع، و«ثم» ظرف مكان للبعيد‏.‏ وقيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ ‏{‏وأزلفنا‏}‏ قربنا من النجاة، والمراد بالآخرين‏:‏ موسى وأصحابه، والأوّل أولى، وقرأ الحسن وأبو حيوة‏:‏ ‏"‏ وزلفنا ‏"‏ ثلاثياً، وقرأ أبيّ، وابن عباس وعبد الله بن الحارث‏:‏ ‏"‏ وأزلقنا ‏"‏ بالقاف أي أزللنا وأهلكنا من قولهم‏:‏ أزلقت الفرس‏:‏ إذا ألقت ولدها‏.‏

‏{‏وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ‏}‏ بمرورهم في البحر بعد أن جعله الله طرقاً يمشون فيها ‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين‏}‏ يعني‏:‏ فرعون وقومه أغرقهم الله باطباق البحر عليهم بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ إلى ما تقدّم ذكره مما صدر بين موسى وفرعون إلى هذه الغاية، ففي ذلك آية عظيمة وقدرة باهرة من أدلّ العلامات على قدرة الله سبحانه، وعظيم سلطانه ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ أي ما كان أكثر هؤلاء الذين مع فرعون مؤمنين، فإنه لم يؤمن منهم فيما بعد إلاّ القليل كحزقيل وابنته، وآسية امرأة فرعون، والعجوز التي دلت على قبر يوسف، وليس المراد أكثر من كان مع فرعون عند لحاقه بموسى، فإنهم هلكوا في البحر جميعاً بل المراد‏:‏ من كان معه من الأصل، ومن كان متابعاً له ومنتسباً إليه، هذا غاية ما يمكن أن يقال، وقال سيبويه وغيره‏:‏ إنَّ «كان» زائدة، وأن المراد الإخبار عن المشركين بعد ما سمعوا الموعظة ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏، أي‏:‏ المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه‏.‏

وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏ قال‏:‏ ستمائة ألف وسبعون ألفاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ كانوا ستمائة ألف‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كان أصحاب موسى الذين جازوا البحر اثني عشر سبطاً، فكان في كلّ طريق اثنا عشر ألفاً كلهم ولد يعقوب ‏"‏ وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً بسندٍ‏.‏ قال السيوطي‏:‏ واه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كان فرعون عدوّ الله حيث أغرقه الله هو وأصحابه في سبعين قائداً مع كل قائد سبعون ألفاً، وكان موسى مع سبعين ألفاً حيث عبروا البحر ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ كان طلائع فرعون الذين بعثهم في أثرهم ستمائة ألف ليس فيها أحد إلاّ على بهيم‏.‏ وأقول‏:‏ هذه الروايات المضطربة قد روي عن كثير من السلف ما يماثلها في الاضطراب والاختلاف، ولا يصحّ منها شيء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ المنابر‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏كالطود‏}‏ قال‏:‏ كالجبل‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود مثله، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَأَزْلَفْنَا‏}‏ قال‏:‏ قربنا‏.‏ وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضلّ الطريق، فقال لبني إسرائيل‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال له علماء بني إسرائيل‏:‏ إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى‏:‏ أيكم يدري أين قبره‏؟‏ فقالوا‏:‏ ما يعلم أحد مكان قبره إلاّ عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها موسى فقال‏:‏ دلينا على قبر يوسف‏؟‏ فقالت‏:‏ لا والله حتى تعطيني حكمي، قال‏:‏ وما حكمك‏؟‏ قالت‏:‏ أن أكون معك في الجنة، فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له‏:‏ أعطها حكمها، فأعطاها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء، فقالت لهم‏:‏ انضبوا عنها الماء، ففعلوا، قالت‏:‏ احفروا فحفروا، فاستخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 104‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ‏(‏71‏)‏ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ‏(‏72‏)‏ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏75‏)‏ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ‏(‏76‏)‏ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏77‏)‏ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ‏(‏78‏)‏ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ‏(‏79‏)‏ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ‏(‏80‏)‏ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏82‏)‏ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏83‏)‏ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏84‏)‏ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ‏(‏85‏)‏ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏86‏)‏ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ‏(‏87‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏89‏)‏ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏90‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ‏(‏91‏)‏ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏92‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏93‏)‏ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ‏(‏94‏)‏ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ‏(‏95‏)‏ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ‏(‏96‏)‏ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏97‏)‏ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏98‏)‏ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏99‏)‏ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ‏(‏100‏)‏ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏102‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ‏}‏ معطوف على العامل في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا نادى رَبُّكَ موسى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 10‏]‏، وقد تقدّم، والمراد بنبأ إبراهيم خبره أي اقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم وحديثه، و‏{‏إِذْ قَالَ‏}‏ منصوب بنبأ إبراهيم أي‏:‏ وقت قوله ‏{‏لأِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏، وقيل‏:‏ «إذ» بدل من نبأ بدل اشتمال، فيكون العامل فيه‏:‏ اتل، والأوّل أولى‏.‏ ومعنى ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ‏}‏‏:‏ أيّ شيء تعبدون‏؟‏ وهو يعلم أنهم يعبدون الأصنام، ولكنه أراد إلزامهم الحجة ‏{‏قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين‏}‏ أي فنقيم على عبادتها مستمراً لا في وقت معين، يقال‏:‏ ظلّ يفعل كذا‏:‏ إذا فعله نهاراً، وبات يفعل كذا‏:‏ إذا فعله ليلاً، فظاهره‏:‏ أنهم يستمرّون على عبادتها نهاراً لا ليلاً، والمراد من العكوف لها الإقامة على عبادتها، وإنما قال‏:‏ ‏{‏لها‏}‏ لإفادة أن ذلك العكوف لأجلها، فلما قالوا هذه المقالة قال إبراهيم منبهاً على فساد مذهبهم ‏{‏هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ‏}‏ قال الأخفش‏:‏ فيه حذف، والمعنى‏:‏ هل يسمعون منكم‏؟‏ أو هل يسمعون دعاءكم‏؟‏ وقرأ قتادة‏:‏ «هل يسمعونكم» بضم الياء أي هل يسمعونكم أصواتهم وقت دعائكم لهم ‏{‏أَوْ يَنفَعُونَكُمْ‏}‏ بوجه من وجوه النفع ‏{‏أَوْ يَضُرُّونَ‏}‏ أي‏:‏ يضرّونكم إذا تركتم عبادتهم، وهذا الاستفهام للتقرير، فإنها إذا كانت لا تسمع، ولا تنفع، ولا تضرّ، فلا وجه لعبادتها، فإذا قالوا‏:‏ نعم هي كذلك، أقرّوا بأن عبادتهم لها من باب اللعب والعبث، وعند ذلك تقوم الحجة عليهم، فلما أورد عليهم الخليل هذه الحجة الباهرة لم يجدوا لها جواباً إلاّ رجوعهم إلى التقليد البحت، وهو أنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون أي‏:‏ يفعلون لهذه العبادة لهذه الأصنام مع كونها بهذه الصفة التي هي سلب السمع والنفع والضر عنها‏.‏

وهذا الجواب هو العصى التي يتوكأ عليها كلّ عاجز، ويمشي بها كلّ أعرج، ويغترّ بها كل مغرور، وينخدع لها كل مخدوع؛ فإنك لو سألت الآن هذه المقلدة للرجال التي طبقت الأرض بطولها والعرض، وقلت لهم‏:‏ ما الحجة لهم على تقليد فرد من أفراد العلماء، والأخذ بكل ما يقوله في الدين، ويبتدعه من الرأي المخالف للدليل لم يجدوا غير هذا الجواب، ولا فاهوا بسواه، وأخذوا يعدّدون عليك من سبقهم إلى تقليد هذا من سلفهم، واقتداء بأقواله وأفعاله، وهم قد ملؤوا صدورهم هيبة، وضاقت أذهانهم عن تصوّرهم، وظنوا أنهم خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأورعهم، فلم يسمعوا لناصح نصحاً، ولا لداع إلى الحق دعاء، ولو فطنوا لوجدوا أنفسهم في غرور عظيم وجهل شنيع وإنهم كالبهيمة العمياء، وأولئك الأسلاف كالعمي الذين يقودون البهائم العمي، كما قال الشاعر‏:‏

كبهيمة عمياء قاد زمامها *** أعمى على عوج الطريق الحائر

فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة المبرأ من التعصب والتعسف‏:‏ أن تورد عليهم حجج الله، وتقيم عليهم براهينه، فإنه ربما انقاد لك منهم من لم يستحكم داء التقليد في قلبه، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء، فلو أوردت عليه كلّ حجة، وأقمت عليه كلّ برهان لما أعارك إلاّ أذنا صماء، وعيناً عمياء، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن، والهداية بيد الخلاق العليم ‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏

ولما قال هؤلاء المقلدة هذه المقالة ‏{‏قَالَ‏}‏ الخليل ‏{‏قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُون أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الأقدمون‏}‏ أي‏:‏ فهل أبصرتم، وتفكرتم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام التي لا تسمع، ولا تنفع، ولا تضرّ حتى تعلموا أنكم على ضلالة وجهالة‏؟‏ ثم أخبرهم بالبراءة من هذه الأصنام التي يعبدونها‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي‏}‏، ومعنى كونهم عدوًّا له مع كونهم جماداً‏:‏ أنه إن عبدهم كانوا له عدوًّا يوم القيامة‏.‏ قال الفراء‏:‏ هذا من المقلوب أي‏:‏ فإني عدوّ لهم؛ لأن من عاديته عاداك، والعدوّ كالصديق يطلق على الواحد والمثنى والجماعة والمذكر والمؤنث كذا قال الفراء‏.‏ قال عليّ بن سليمان‏:‏ من قال‏:‏ عدوّة الله، فأثبت الهاء، قال‏:‏ هي بمعنى المعادية، ومن قال‏:‏ عدوّ للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى‏}‏ آباؤهم الأقدمون لأجل عبادتهم الأصنام، وردّ بأن الكلام مسوق فيما عبدوه لا في العابدين، والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ رَبَّ العالمين‏}‏ منقطع أي لكن ربّ العالمين ليس كذلك، بل هو وليي في الدنيا والآخرة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قال النحويون‏:‏ هو استثناء ليس من الأوّل، وأجاز الزجاج أيضاً أن يكون من الأوّل على أنهم كانوا يعبدون الله عزّ وجلّ، ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلاّ الله‏.‏ قال الجرجاني‏:‏ تقديره‏:‏ أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلاّ رب العالمين، فإنهم عدوّ لي، فجعله من باب التقديم والتأخير، وجعل إلاّ بمعنى دون وسوى كقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏ أي دون الموتة الأولى‏.‏ وقال الحسن بن الفضل‏:‏ إن المعنى‏:‏ إلاّ من عبد ربّ العالمين‏.‏

ثم وصف ربّ العالمين بقوله‏:‏ ‏{‏الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ‏}‏ أي‏:‏ فهو يرشدني إلى مصالح الدين والدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ إن الموصول مبتدأ، وما بعده خبره، والأوّل أولى‏.‏ ويجوز أن يكون الموصول بدلاً من ربّ، وأن يكون عطف بيان له، وأن يكون منصوباً على المدح بتقدير‏:‏ أعني، أو أمدح، وقد وصف الخليل ربه بما يستحق العبادة لأجله، فإن الخلق، والهداية، والرزق يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ‏}‏، ودفع ضرّ المرض، وجلب نفع الشفاء، والإماتة، والإحياء، والمغفرة للذنب، كلها نعم يجب على المنعم عليه ببعضها فضلاً عن كلها أن يشكر المنعم بجميع أنواع الشكر التي أعلاها، وأولاها العبادة، ودخول هذه الضمائر في صدور هذه الجمل للدلالة على أنه الفاعل لذلك دون غيره، وأسند المرض إلى نفسه دون غيره من هذه الأفعال المذكورة رعاية للأدب مع الربّ، وإلاّ فالمرض وغيره من الله سبحانه، ومراده بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُحْيِينِ‏}‏ البعث، وحذف الياء من هذه الأفعال لكونها رؤوس الآي‏.‏

وقرأ ابن أبي إسحاق هذه الأفعال كلها بإثبات الياء، وإنما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين‏}‏ هضماً لنفسه، وقيل‏:‏ إن الطمع هنا بمعنى اليقين في حقه، وبمعنى الرجاء في حق سواه‏.‏ وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق «خطاياي» قالا‏:‏ ليست خطيئته واحدة‏.‏ قال النحاس‏:‏ خطيئة بمعنى خطايا في كلام العرب‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني بخطيئته قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 63‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنّى سَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 89‏]‏، وقوله‏:‏ إن سارة أخته، زاد الحسن‏:‏ وقوله للكوكب‏:‏ ‏{‏هذا رَبّي‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 86‏]‏، وحكى الواحدي عن المفسرين‏:‏ أنهم فسروا الخطايا بما فسرها به مجاهد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الأنبياء بشر، ويجوز أن تقع عليهم الخطيئة إلاّ أنهم لا تكون منهم الكبيرة؛ لأنهم معصومون، والمراد بيوم الدين‏:‏ يوم الجزاء للعباد بأعمالهم، ولا يخفى أن تفسير الخطايا بما ذكره مجاهد، ومن معه ضعيف، فإن تلك معاريض، وهي أيضاً إنما صدرت عنه بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه‏.‏

ثم لما فرغ الخليل من الثناء على ربه، والاعتراف بنعمه عقبه بالدعاء ليقتدي به غيره في ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏رَبّ هَبْ لِي حُكْماً‏}‏، والمراد بالحكم العلم والفهم، وقيل‏:‏ النبوّة والرسالة، وقيل‏:‏ المعرفة بحدود الله، وأحكامه إلى آخره ‏{‏وَأَلْحِقْنِي بالصالحين‏}‏ يعني‏:‏ بالنبيين من قبلي‏.‏ وقيل‏:‏ بأهل الجنة ‏{‏واجعل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين‏}‏ أي‏:‏ اجعل لي ثناء حسناً في الآخرين الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة‏.‏ قال القتيبي‏:‏ وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به، وقد تكنى العرب بها عن الكلمة، ومنه قول الأعشى‏:‏

إني أتتني لسان لا أسرّ بها *** وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 108‏]‏ فإن كل أمة تتمسك به وتعظمه‏.‏ وقال مكي‏:‏ قيل‏:‏ معنى سؤاله‏:‏ أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، فأجيبت دعوته في محمد صلى الله عليه وسلم، ولا وجه لهذا التخصيص‏.‏ وقال القشيري‏:‏ أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة، ولا وجه لهذا أيضاً، فإن لسان الصدق أعم من ذلك ‏{‏واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم‏}‏‏:‏ ‏{‏من ورثة‏}‏ يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً، وأن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني أي وارثاً من ورثة جنة النعيم، لما طلب عليه السلام بالدعوة الأولى سعادة الدنيا طلب بهذه الدعوة سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وجعلها مما يورث تشبيهاً لغنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا، وقد تقدّم تفسير معنى الوراثة في سورة مريم‏:‏ ‏{‏واغفر لأِبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين‏}‏ كان أبوه قد وعده أنه يؤمن به، فاستغفر له، فلما تبين له أنه عدوّ الله تبرأ منه، وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى في سورة التوبة وسورة مريم، ومعنى ‏{‏مِنَ الضالين‏}‏‏:‏ من المشركين الضالين عن طريق الهداية‏.‏

و ‏{‏كان‏}‏ زائدة على مذهب سيبويه كما تقدّم في غير موضع‏.‏

‏{‏وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تفضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي، أو لا تعذبني يوم القيامة، أو لا تخزني بتعذيب أبي أو ببعثه في جملة الضالين، والإخزاء يطلق على الخزي، وهو الهوان، وعلى الخزاية وهي الحياء، و‏{‏يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ‏}‏ بدل من يبعثون، أي يوم لا ينفع فيه المال والبنون أحداً من الناس، والابن هو أخصّ القرابة، وأولاهم بالحماية، والدفع، والنفع، فإذا لم ينفع، فغيره من القرابة، والأعوان بالأولى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ إن هذا وما بعده من كلام الله، وهو ضعيف، والاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ قيل‏:‏ هو منقطع، أي‏:‏ لكن من أتى الله بقلب سليم‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ إلا حال من أتى الله بقلب سليم، فقدّر مضافاً محذوفاً‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ ولا ضرورة تدعو إلى ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا الاستثناء بدل من المفعول المحذوف، أو مستثنى منه، إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلاّ من كانت هذه صفته، ويحتمل أن يكون بدلاً من فاعل ‏{‏ينفع‏}‏، فيكون مرفوعاً‏.‏ قال أبو البقاء‏:‏ فيكون التقدير‏:‏ إلاّ مال من أو بنو من، فإنه ينفع‏.‏ واختلف في معنى القلب السليم، فقيل‏:‏ السليم من الشرك، فأما الذنوب، فليس يسلم منها أحد، قاله أكثر المفسرين‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ القلب السليم الصحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، وقيل‏:‏ هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة، وقيل‏:‏ السالم من آفة المال والبنين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ السليم الخالص‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ السليم في اللغة‏:‏ اللديغ، فمعناه‏:‏ أنه قلب كاللديغ من خوف الله تعالى، وهذا تحريف وتعكيس لمعنى القرآن‏.‏ قال الرازي‏:‏ أصح الأقوال أن المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة‏.‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ أي‏:‏ قربت، وأدنيت لهم؛ ليدخلوها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ قرب دخولهم إياها، ونظرهم إليها ‏{‏وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ‏}‏ أي جعلت بارزة لهم، والمراد بالغاوين‏:‏ الكافرون، والمعنى‏:‏ أنها أظهرت قبل أن يدخلها المؤمنون، ليشتدّ حزن الكافرين، ويكثر سرور المؤمنين ‏{‏وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله‏}‏ من الأصنام والأنداد ‏{‏هَلْ يَنصُرُونَكُمْ‏}‏ فيدفعون عنكم العذاب ‏{‏أَوْ يَنتَصِرُونَ‏}‏ بدفعه عن أنفسهم‏.‏ وهذا كله توبيخ وتقريع لهم، وقرأ مالك بن دينار‏:‏ «وبرّزت» بفتح الباء والراء مبنياً للفاعل‏.‏

‏{‏فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون‏}‏ أي ألقوا في جهنم ‏"‏ هم ‏"‏ يعني‏:‏ المعبودين، و‏{‏الغاوون‏}‏ يعني‏:‏ العابدين لهم‏.‏ وقيل‏:‏ معنى كبكبوا‏:‏ قلبوا على رؤوسهم، وقيل‏:‏ ألقى بعضهم على بعض، وقيل‏:‏ جمعوا، مأخذوا من الكبكبة، وهي الجماعة قاله الهروي‏.‏ وقال النحاس‏:‏ هو مشتق من كوكب الشيء أي معظمه، والجماعة من الخيل كوكب، وكبكبة، وقيل‏:‏ دهدهوا، وهذه المعاني متقاربة، وأصله كببوا بباءين الأولى مشدّدة من حرفين، فأبدل من الباء الوسطى الكاف‏.‏ وقد رجح الزجاج أن المعنى‏:‏ طرح بعضهم على بعض‏.‏ ورجح ابن قتيبة أن المعنى‏:‏ ألقوا على رؤوسهم‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في كبكبوا لقريش، والغاوون الآلهة، والمراد بجنود إبليس‏:‏ شياطينه الذين يغوون العباد، وقيل‏:‏ ذريته، وقيل‏:‏ كل من يدعو إلى عبادة الأصنام، و‏{‏أَجْمَعُونَ‏}‏ تأكيد للضمير في كبكبوا، وما عطف عليه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل‏؟‏ ومقول القول‏:‏ ‏{‏تالله إِن كُنَّا لَفِي ضلال مُّبِينٍ‏}‏ وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال أي قالوا هذه المقالة حال كونهم في جهنم مختصمين، و«إن» في ‏{‏إِن كُنَّا‏}‏ هي المخففة من الثقيلة، واللام فارقة بينها وبين النافية أي قالوا تالله إن الشأن كوننا في ضلال واضح ظاهر، والمراد بالضلال هنا‏:‏ الخسار، والتبار، والحيرة عن الحق، والعامل في الظرف، أعني‏:‏ ‏{‏إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين‏}‏ هو كونهم في الضلال المبين‏.‏ وقيل‏:‏ العامل هو الضلال، وقيل‏:‏ ما يدل عليه الكلام، كأنه قيل‏:‏ ضللنا وقت تسويتنا لكم بربّ العالمين‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ إنّ «إن» في ‏{‏أَن كُنَّا‏}‏ نافية، واللام بمعنى إلاّ أي ما كنا إلا في ضلال مبين‏.‏ والأوّل أولى، وهو مذهب البصريين‏.‏

‏{‏فَمَا لَنَا مِن شافعين‏}‏ يشفعون لنا من العذاب كما للمؤمنين ‏{‏وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ ذي قرابة، والحميم القريب الذي تودّه، ويودّك، ووحد الصديق لما تقدّم غير مرة أنه يطلق على الواحد والإثنين والجماعة والمذكر والمؤنث، والحميم مأخوذ من حامة الرجل أي‏:‏ أقربائه، ويقال‏:‏ حمّ الشيء وأحمّ إذا قرب منه، ومنه الحمى؛ لأنه يقرّب من الأجل‏.‏ وقال علي بن عيسى‏:‏ إنما سمي القريب حميماً؛ لأنه يحمى لغضب صاحبه، فجعله مأخوذاً من الحمية‏.‏ ‏{‏فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ هذا منهم على طريق التمني الدالّ على كمال التحسر كأنهم قالوا‏:‏ فليت لنا كرّة أي رجعة إلى الدنيا، وجواب التمني‏:‏ ‏{‏فنكون من المؤمنين‏}‏ أي نصير من جملتهم، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ إلى ما تقدّم ذكره من نبأ إبراهيم، والآية‏:‏ العبرة والعلامة، والتنوين يدل على التعظيم والتفخيم ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ أي أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ إبراهيم، وهم قريش ومن دان بدينهم‏.‏

وقيل‏:‏ وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين، وهو ضعيف؛ لأنهم كلهم غير مؤمنين ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ أي هو القاهر لأعدائه الرحيم بأوليائه، أو الرحيم للأعداء بتأخير عقوبتهم وترك معاجلتهم‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْحِقْنِي بالصالحين‏}‏ يعني‏:‏ بأهل الجنة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏واجعل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين‏}‏ قال‏:‏ اجتماع أهل الملل على إبراهيم‏.‏ وأخرج عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏واغفر لأَبِى‏}‏ قال‏:‏ امنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك‏.‏ وأخرج البخاري، وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم‏:‏ ألم أقل لك لا تعصني، فيقول أبوه‏:‏ فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم‏:‏ ربّ إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأيّ خزي أخزى من أبي‏؟‏ الأبعد فيقول الله‏:‏ إني حرّمت الجنة على الكافرين، ثم يقول‏:‏ يا إبراهيم ما تحت رجليك‏؟‏ فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار»، والذيخ هو الذكر من الضباع، فكأنه حوّل آزر إلى صورة ذيخ‏.‏ وقد أخرجه النسائي بأطول من هذا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ شهادة أن لا إله إلاّ الله‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه‏:‏ ‏{‏فَكُبْكِبُواْ فِيهَا‏}‏ قال‏:‏ جمعوا فيها ‏{‏هُمْ والغاوون‏}‏ قال‏:‏ مشركو العرب والآلهة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً‏}‏ قال‏:‏ رجعة إلى الدنيا ‏{‏فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ حتى تحلّ لنا الشفاعة كما حلت لهؤلاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 135‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏105‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏106‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏107‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏108‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏112‏)‏ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏114‏)‏ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏115‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ‏(‏116‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ‏(‏117‏)‏ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏119‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏121‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏122‏)‏ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏125‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏126‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏127‏)‏ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ‏(‏128‏)‏ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ‏(‏129‏)‏ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ‏(‏130‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏131‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ‏(‏132‏)‏ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ‏(‏133‏)‏ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏134‏)‏ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏135‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين‏}‏ أنث الفعل لكونه مسنداً إلى قوم، وهو في معنى الجماعة، أو الأمة، أو القبيلة، وأوقع التكذيب على المرسلين، وهم لم يكذبوا إلاّ الرسول المرسل إليهم، لأن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل، لأن كلّ رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ كذبوا نوحاً في الرسالة، وكذبوه فيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ‏}‏ أي‏:‏ أخوهم من أبيهم، لا أخوهم في الدين‏.‏ وقيل‏:‏ هي أخوة المجانسة، وقيل‏:‏ هو من قول العرب‏:‏ يا أخا بني تميم، يريدون واحداً منهم ‏{‏أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ ألا تتقون الله بترك عبادة الأصنام، وتجيبون رسوله الذي أرسله إليكم‏؟‏ ‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ‏}‏ أي إني لكم رسول من الله أمين فيما أبلغكم عنه، وقيل‏:‏ أمين فيما بينكم، فإنهم كانوا قد عرفوا أمانته وصدقه ‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ أي اجعلوا طاعة الله وقاية لكم من عذابه، وأطيعون فيما آمركم به عن الله من الإيمان به وترك الشرك، والقيام بفرائض الدين ‏{‏وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ أي ما أطلب منكم أجراًعلى تبليغ الرسالة، ولا أطمع في ذلك منكم ‏{‏إِنْ أَجْرِيَ‏}‏ الذي أطلبه وأريده ‏{‏إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ أي ما أجري إلاّ عليه، وكرّر قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق كل واحد منهم بسبب، وهو الأمانة في الأوّل، وقطع الطمع في الثاني، ونظيره قولك‏:‏ ألاّ تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً‏؟‏ ألاّ تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً‏؟‏ وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته؛ لأن تقوى الله علة لطاعته‏.‏

‏{‏قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون‏}‏ الاستفهام للإنكار أي كيف نتبعك ونؤمن لك، والحال أن قد اتبعك الأرذلون‏؟‏ وهم جمع أرذل، وجمع التكسير أرذال، والأنثى‏:‏ رذلى، وهم الأقلون جاهاً ومالا، والرذالة الخسة والذلة، استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم، أو لاتضاع أنسابهم‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا من أهل الصناعات الخسيسة، وقد تقدم تفسير هذه الآيات في هود‏.‏ وقرأ ابن مسعود، والضحاك، ويعقوب الحضرمي‏:‏ «وأتباعك الأرذلون» قال النحاس‏:‏ وهي قراءة حسنة، لأن هذه الواو تتبعها الأسماء كثيراً، وأتباع جمع تابع، فأجابهم نوح بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ كان زائدة، والمعنى‏:‏ وما علمي بعملهم أي لم أكلف العلم بأعمالهم‏.‏ إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان والإعتبار به، لا بالحرف والصنائع والفقر والغنى، وكأنهم أشاروا بقولهم‏:‏ ‏{‏واتبعك الأرذلون‏}‏ إلى أن إيمانهم لم يكن عن نظر صحيح، فأجابهم بهذا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إني لم أعلم أن الله سيهديهم ويضلكم‏.‏

‏{‏إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ‏}‏ أي ما حسابهم، والتفتيش عن ضمائرهم وأعمالهم إلاّ على الله لو كنتم من أهل الشعور والفهم، قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تشعرون‏}‏ بالفوقية، وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع والأعرج وأبو زرعة بالتحتية، كأنه ترك الخطاب للكفار، والتفت إلى الإخبار عنهم‏.‏

قال الزجاج‏:‏ والصناعات لا تضرّ في باب الديانات، وما أحسن ما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين‏}‏ هذا جواب من نوح على ما ظهر من كلامهم من طلب الطرد لهم‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي ما أنا إلا نذير موضح لما أمرني الله سبحانه بإبلاغه إليكم، وهذه الجملة كالعلة لما قبلها‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين‏}‏ أي إن لم تترك عيب ديننا وسبّ آلهتنا لتكونن من المرجومين بالحجارة‏.‏ وقيل‏:‏ من المشتومين، وقيل‏:‏ من المقتولين، فعدلوا بعد تلك المحاورة بينهم وبين نوح إلى التجبر والتوعد، فلما سمع نوح قولهم هذا، قال ‏{‏رَبّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ‏}‏ أي أصرّوا على تكذيبي، ولم يسمعوا قولي، ولا أجابوا دعائي ‏{‏فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً‏}‏ الفتح‏:‏ الحكم أي احكم بيني وبينهم حكماً، وقد تقدّم تحقيق معنى الفتح ‏{‏وَنَجّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين‏}‏‏.‏

فلما دعا ربه بهذا الدعاء استجاب له، فقال‏:‏ ‏{‏فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون‏}‏ أي السفينة المملوءة، والشحن ملء السفينة بالناس، والدوابّ، والمتاع ‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين‏}‏ أي ثم أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ أي‏:‏ علامة وعبرة عظيمة ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ كان زائدة عند سيبويه، وغيره على ما تقدّم تحقيقه ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ أي القاهر لأعدائه، الرحيم بأوليائه‏.‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين‏}‏ أنث الفعل باعتبار إسناده إلى القبيلة، لأن عاداً اسم أبيهم الأعلى‏.‏ ومعنى تكذيبهم المرسلين مع كونهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً قد تقدّم وجهه في قصة نوح قريباً ‏{‏إِذ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ الكلام فيه كالكلام في قول نوح المتقدم قريباً، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ الكلام فيه كالذي قبله سواء ‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً تَعْبَثُونَ‏}‏ الريع‏:‏ المكان المرتفع من الأرض جمع ريعة، يقال‏:‏ كم ريع أرضك‏؟‏ أي كم ارتفاعها‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الريع‏:‏ الارتفاع جمع ريعة‏.‏ وقال قتادة، والضحاك، والكلبي‏:‏ الريع الطريق، وبه قال مقاتل والسديّ‏.‏ وإطلاق الريع على ما ارتفع من الأرض معروف عند أهل اللغة، ومنه قول ذي الرمة‏:‏

طراق الخوافِي مشرف فوق ريعة *** بذي ليله في ريشه يترقرقُ

وقيل‏:‏ الريع الجبل، واحده ريعة، والجمع أرياع‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو الفجّ بين الجبلين، وروي عنه أنه الثنية الصغيرة، وروي عنه‏:‏ أيضاً أنه المنظرة‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ أنكم تبنون بكل مكان مرتفع علماً تعبثون ببنيانه، وتلعبون بالمارة، وتسخرون منهم، لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق، فتؤذون المارة، وتسخرون منهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إنه عبث العشارين بأموال من يمرّ بهم حكاه الماوردي‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ الريع الصومعة، والريع‏:‏ البرج يكون في الصحراء، والريع‏:‏ التلّ العالي، وفي الريع لغتان كسر الراء وفتحها‏.‏ ‏{‏وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ‏}‏ المصانع‏:‏ هي الأبنية التي يتخذها الناس منازل‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ كل بناء مصنعة منه، وبه قال الكلبي وغيره، ومنه قول الشاعر‏:‏

تركن دارهم منهم قفارا *** وهدّمنا المصانع والبروجا

وقيل‏:‏ هي الحصون المشيدة، قاله مجاهد، وغيره، وقال الزجاج‏:‏ إنها مصانع الماء التي تجعل تحت الأرض واحدتها‏:‏ مصنعة ومصنع، ومنه قول لبيد‏:‏

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع *** وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

وليس في هذا البيت ما يدلّ صريحاً على ما قاله الزجاج، ولكنه قال الجوهري‏:‏ المصنعة بضم النون‏:‏ الحوض يجمع فيه ماء المطر، والمصانع‏:‏ الحصون‏.‏ وقال عبد الرزاق‏:‏ المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العالية‏.‏ ومعنى ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏‏:‏ راجين أن تخلدوا، وقيل‏:‏ إن لعل هنا للاستفهام التوبيخي أي هل تخلدون، كقولهم‏:‏ لعلك تشتمني أي هل تشتمني‏؟‏ وقال الفراء‏:‏ كي تخلدوا، لا تتفكرون في الموت‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ كأنكم باقون مخلدون‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تخلدون‏}‏ مخففاً‏.‏ وقرأ قتادة بالتشديد‏.‏ وحكى النحاس أن في بعض القراءات‏:‏ ‏{‏كأنكم مخلدون‏}‏، وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏"‏ كي تخلدوا ‏"‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ‏}‏ البطش‏:‏ السطوة والأخذ بالعنف‏.‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ البطش العسف قتلاً بالسيف، وضرباً بالسوط‏.‏ والمعنى‏:‏ فعلتم ذلك ظلماً، وقيل‏:‏ هو القتل على الغضب قاله الحسن، والكلبي‏.‏ قيل‏:‏ والتقدير‏:‏ وإذا أردتم البطش، لئلا يتحد الشرط، والجزاء، وانتصاب ‏{‏جبارين‏}‏ على الحال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم، وأما في الحق، فالبطش بالسوط والسيف جائز‏.‏ ثم لما وصفهم بهذه الأوصاف القبيحة الدالة على الظلم والعتوّ والتمرّد والتجبر أمرهم بالتقوى، فقال‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ أجمل التقوى ثم فصلها بقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ‏}‏، وأعاد الفعل للتقرير والتأكيد ‏{‏وجنات وَعُيُونٍ‏}‏ أي بساتين، وأنهار وأبيار‏.‏ ثم وعظهم وحذرهم فقال‏:‏ ‏{‏إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ إن كفرتم، وأصررتم على ما أنتم فيه ولم تشكروا هذه النعم، والمراد بالعذاب العظيم‏:‏ الدنيوي والأخروي‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس ‏{‏قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ‏}‏ أي‏:‏ أنصدّقك‏؟‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد ‏{‏واتبعك الأرذلون‏}‏ قال‏:‏ الحوّاكون‏.‏ وأخرج أيضاً عن قتادة قال‏:‏ سفلة الناس، وأراذلهم‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏الفلك المشحون‏}‏ قال‏:‏ الممتلئ‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه، أنه قال‏:‏ «أتدرون ما المشحون‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، قال‏:‏ هو الموقر»‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال‏:‏ هو المثقل‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏بِكُلّ رِيعٍ‏}‏ قال‏:‏ طريق ‏{‏ءَايَةً‏}‏ قال‏:‏ علماً ‏{‏تَعْبَثُونَ‏}‏ قال‏:‏ تلعبون‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏بِكُلّ رِيعٍ‏}‏ قال‏:‏ شرف‏.‏ وأخرجوا أيضاً عنه‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏ قال‏:‏ كأنكم تخلدون‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏جَبَّارِينَ‏}‏ قال‏:‏ أقوياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136- 159‏]‏

‏{‏قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ‏(‏136‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏137‏)‏ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏138‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏140‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏141‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏142‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏143‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏144‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏145‏)‏ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ‏(‏146‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏147‏)‏ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ‏(‏148‏)‏ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ‏(‏149‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏150‏)‏ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏151‏)‏ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏152‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏154‏)‏ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏155‏)‏ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏156‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ‏(‏157‏)‏ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏158‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏159‏)‏‏}‏

أي وعظك، وعدمه ‏{‏سَوَآء‏}‏ عندنا لا نبالي بشيء منه، ولا نلتفت إلى ما تقوله‏.‏ وقد روى العباس عن أبي عمرو، وروى بشر عن الكسائي ‏{‏أَوَعَظْتَ‏}‏ بإدغام الظاء في التاء، وهو بعيد، لأن حرف الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدًّا، وروى ذلك عن عاصم والأعمش وابن محيصن‏.‏ وقرأ الباقون بإظهار الظاء ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين‏}‏ أي‏:‏ ما هذا الذي جئتنا به، ودعوتنا إليه من الدين إلاّ خلق الأوّلين أي عادتهم التي كانوا عليها‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ما هذا الذي نحن عليه إلاّ خلق الأوّلين وعادتهم، وهذا بناء على ما قاله الفراء، وغيره‏:‏ إن معنى‏:‏ ‏{‏خُلُقُ الأولين‏}‏‏:‏ عادة الأوّلين‏.‏ قال النحاس‏:‏ خلق الأوّلين عند الفراء بمعنى عادة الأوّلين‏.‏ وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال ‏{‏خُلُقُ الأولين‏}‏‏:‏ مذهبهم، وما جرى عليه أمرهم‏.‏ والقولان متقاربان‏.‏ قال‏:‏ وحكى لنا محمد بن يزيد أن معنى ‏{‏خُلُقُ الأولين‏}‏‏:‏ تكذيبهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ قالوا‏:‏ ما هذا الذي تدعونا إليه إلاّ كذب الأوّلين‏.‏ قال الواحدي‏:‏ وهو قول ابن مسعود ومجاهد‏.‏ قال‏:‏ والخلق والاختلاق الكذب، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏‏.‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب‏:‏ «خلق الأوّلين» بفتح الخاء، وسكون اللام‏.‏ وقرأ الباقون بضم الخاء، واللام‏.‏ قال الهروي‏:‏ معناه على القراءة الأولى‏:‏ اختلاقهم، وكذبهم‏.‏ وعلى القراءة الثانية‏:‏ عادتهم، وهذا التفصيل لا بدّ منه‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ الخلق‏:‏ الدين، والخلق‏:‏ الطبع، والخلق‏:‏ المروءة‏.‏ وقرأ أبو قلابة بضم الخاء، وسكون اللام، وهي تخفيف لقراءة الضم لهما، والظاهر‏:‏ أن المراد بالآية هو قول من قال‏:‏ ما هذا الذي نحن عليه إلا عادة الأوّلين وفعلهم، ويؤيده قولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ أي على ما نفعل من البطش، ونحوه مما نحن عليه الآن‏.‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فأهلكناهم‏}‏ أي بالريح كما صرح القرآن في غير هذا الموضع بذلك ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ تقدّم تفسير هذا قريباً في هذه السورة‏.‏

ثم لما فرغ سبحانه من ذكر قصة هود وقومه، ذكر قصة صالح وقومه، وكانوا يسكنون الحجر، فقال‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ قد تقدّم تفسيره في قصة هود المذكورة قبل هذه القصة‏.‏ ‏{‏أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا ءامِنِينَ‏}‏ الاستفهام للإنكار‏.‏ أي‏:‏ أتتركون في هذه النعم التي أعطاكم الله آمنين من الموت والعذاب باقين في الدنيا‏.‏ ولما أبهم النعم في هذا فسرها بقوله‏:‏ ‏{‏فِي جنات وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏، والهضيم‏:‏ النضيح الرخص اللين اللطيف، والطلع‏:‏ ما يطلع من الثمر، وذكر النخل مع دخوله تحت الجنات لفضله على سائر الأشجار، وكثيراً ما يذكرون الشيء الواحد بلفظ يعمه وغيره كما يذكرون النعم ولا يقصدون إلاّ الإبل، وهكذا يذكرون الجنة، ولا يريدون إلاّ النخل‏.‏

قال زهير‏:‏

كأن عيني في غربي مقبلة *** من النواضح تسقي جنة سحقاً

وسحقاً جمع سحوق، ولا يوصف به إلاّ النخل‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالجنات غير النخل من الشجر، والأوّل أولى‏.‏ وحكى الماوردي في معنى ‏{‏هضيم‏}‏ اثني عشر قولاً، أحسنها وأوفقها للغة ما ذكرناه‏.‏ ‏{‏وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين‏}‏ النحت‏:‏ النجر، والبري، نحته ينحته بالكسر‏:‏ براه‏.‏ والنحاتة‏:‏ البراية، وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدّم بناؤهم من المدر‏.‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان‏:‏ ‏{‏فرهين‏}‏ بغير ألف‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏فارهين‏}‏ بالألف‏.‏ قال أبو عبيدة وغيره‏:‏ وهما بمعنى واحد‏.‏ والفره‏:‏ النشاط، وفرّق بينهما أبو عبيد وغيره فقالوا‏:‏ ‏{‏فارهين‏}‏ حاذقين بنحتها، وقيل‏:‏ متجبرين، و«فرهين» بطرين أشرين، وبه قال مجاهد، وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ شرهين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كيسين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معجبين ناعمين آمنين، وبه قال الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ فرحين، قاله الأخفش‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ أقوياء ‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين‏}‏ أي المشركين، وقيل‏:‏ الذين عقروا الناقة، ثم وصف هؤلاء المسرفين بقوله‏.‏ ‏{‏الذين يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ‏}‏ أي ذلك دأبهم يفعلون الفساد في الأرض، ولا يصدر منهم الصلاح ألبتة ‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين‏}‏ أي الذين أصيبوا بالسحر قاله مجاهد، وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ المسحر هو‏:‏ المعلل بالطعام والشراب قاله الكلبي، وغيره، فيكون المسحر الذي له سحر، وهو الرئة، فكأنهم قالوا‏:‏ إنما أنت بشر مثلنا تأكل وتشرب‏.‏ قال الفراء‏:‏ أي‏:‏ إنك تأكل الطعام والشراب، وتسحر به، ومنه قول امرئ القيس أو لبيد‏:‏

فإن تسألينا‏:‏ فيم نحن‏؟‏ فإننا *** عصافير من هذا الأنام المسحر

وقال امرؤ القيس أيضاً‏:‏

أرانا موضعين لحتم غيب *** ونسحر بالطعام وبالشراب

قال المؤرّج‏:‏ المسحر المخلوق بلغة ربيعة‏.‏ ‏{‏مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في قولك، ودعواك ‏{‏قَالَ هذه نَاقَةٌ‏}‏ الله ‏{‏لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ أي لها نصيب من الماء، ولكم نصيب منه معلوم، ليس لكم أن تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها، ولا هي تشرب في اليوم الذي هو نصيبكم‏.‏ قال الفراء‏:‏ الشرب الحظ من الماء‏.‏ قال النحاس‏:‏ فأما المصدر، فيقال‏:‏ فيه شرب شِرباً، وشُرباً، وأكثرها المضموم، والشرب بفتح الشين جمع شارب، والمراد هنا‏:‏ الشرب بالكسر، وبه قرأ الجمهور فيهما، وقرأ ابن أبي عبلة بالضم فيهما ‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي لا تمسوها بعقر، أو ضرب، أو شيء مما يسوؤها، وجواب النهي فيأخذكم ‏{‏فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نادمين‏}‏ على عقرها، لما عرفوا أن العذاب نازل بهم، وذلك أنه أنظرهم ثلاثاً، فظهرت عليهم العلامة في كلّ يوم، وندموا حيث لا ينفع الندم، لأن ذلك لا يجدي عند معاينة العذاب وظهور آثاره‏.‏

‏{‏فَأَخَذَهُمُ العذاب‏}‏ الذي وعدهم به‏.‏ وقد تقدّم تفسير قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ في هذه السورة، وتقدّم أيضاً تفسير قصة صالح وقومه في غير هذه السورة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ معشب‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ أينع وبلغ‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ أرطب واسترخى‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏فَرِهِينَ‏}‏ قال‏:‏ حاذقين‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال ‏{‏فَرِهِينَ‏}‏ أشرين‏.‏ وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ شرهين‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين‏}‏ قال‏:‏ من المخلوقين، وأنشد قول لبيد بن ربيعة‏:‏

فإن تسألينا فيم نحن‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏لَّهَا شِرْبٌ‏}‏ قال‏:‏ إذا كان يومها أصدر لها لبناً ما شاؤوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 191‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏160‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏161‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏162‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏164‏)‏ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏165‏)‏ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ‏(‏166‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ‏(‏167‏)‏ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ‏(‏168‏)‏ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏169‏)‏ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏170‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏171‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏172‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏173‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏174‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏175‏)‏ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏176‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏178‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏179‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏180‏)‏ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ‏(‏181‏)‏ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ‏(‏182‏)‏ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏183‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏184‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏185‏)‏ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏186‏)‏ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏187‏)‏ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏188‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏190‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏191‏)‏‏}‏

ذكر سبحانه القصة السادسة من قصص الأنبياء مع قومهم، وهي قصة لوط‏.‏ وقد تقدّم تفسير قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ في هذه السورة، وتقدّم أيضاً تفسير قصة لوط مستوفى في الأعراف قوله‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين‏}‏ الذكران‏:‏ جمع الذكر ضدّ الأنثى، ومعنى ‏{‏تأتون‏}‏‏:‏ تنكحون الذكران من العالمين، وهم بنو آدم، أو كل حيوان، وقد كانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدّم في الأعراف‏.‏ ‏{‏وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم‏}‏ أي‏:‏ وتتركون ما خلقه الله لأجل استمتاعكم به من النساء، وأراد بالأزواج‏:‏ جنس الإناث ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ‏}‏ أي مجاوزون للحدّ في جميع المعاصي، ومن جملتها هذه المعصية التي ترتكبونها من الذكران ‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط‏}‏ عن الإنكار علينا، وتقبيح أمرنا ‏{‏لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين‏}‏ من بلدنا المنفيين عنها ‏{‏قَالَ إِنّي لِعَمَلِكُمْ‏}‏، وهو ما أنتم فيه من إتيان الذكران ‏{‏مّنَ القالين‏}‏ المبغضين له، والقلي‏:‏ البغض، قليته أقليه قلا، وقلاء، ومنه قول الشاعر‏:‏

فلست بمقلي الخلال ولا قالي *** وقال الآخر‏:‏

ومالك عندي إن نأيت قلاء *** ثم رغب عليه الصلاة والسلام عن محاورتهم، وطلب من الله عزّ وجلّ أن ينجيه، فقال‏:‏ ‏{‏رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي من عملهم الخبيث، أو من عقوبته التي ستصيبهم، فأجاب الله سبحانه دعاءه، وقال‏:‏ ‏{‏فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي أهل بيته، ومن تابعه على دينه، وأجاب دعوته ‏{‏إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين‏}‏ هي امرأة لوط، ومعنى ‏{‏فِي الغابرين‏}‏‏:‏ من الباقين في العذاب‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت‏.‏ قال النحاس‏:‏ يقال للذاهب غابر، وللباقي غابر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لا تكسع الشول بأغبارها *** إنك لا تدري من الناتج

والأغبار‏:‏ بقية الألبان، وتقول العرب‏:‏ ما مضى، وما غبر أي‏:‏ ما مضى، وما بقي ‏{‏ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين‏}‏ أي أهلكناهم بالخسف، والحصب‏.‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا‏}‏ يعني‏:‏ الحجارة ‏{‏فَسَاء مَطَرُ المنذرين‏}‏ المخصوص بالذمّ محذوف، والتقدير‏:‏ مطرهم، وقد تقدّم تفسير‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ في هذه السورة‏.‏

‏{‏كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ المرسلين‏}‏ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر «ليكة» بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسماً غير معرّف بأل مضافاً إليه أصحاب، وقرأ الباقون‏.‏ ‏{‏الأيكة‏}‏ معرفاً، و‏{‏الأيكة‏}‏‏:‏ الشجر الملتف، وهي الغيضة، وليكة اسم للقرية، وقيل‏:‏ هما بمعنى واحد اسم للغيضة‏.‏ قال القرطبي‏:‏ فأما ما حكاه أبو عبيد من‏:‏ أن ليكة اسم القرية التي كانوا فيها، وأن الأيكة اسم البلد كله، فشيء لا يثبت، ولا يعرف من قاله ولو عرف لكان فيه نظر؛ لأن أهل العلم جميعاً على خلافه‏.‏

قال أبو عليّ الفارسي‏:‏ الأيكة تعريف أيكة، فإذا حذفت الهمزة تخفيفاً ألقيت حركتها على اللام‏.‏ قال الخليل‏:‏ الأيكة غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ لم يقل‏:‏ أخوهم كما قال في الأنبياء قبله؛ لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيباً؛ لأنه كان منهم، وقد مضى تحقيق نسبه في الأعراف، وقد تقدم تفسير قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ في هذه السورة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين‏}‏ أي أتموا الكيل لمن أراده، وعامل به، ولا تكونوا من المخسرين‏:‏ الناقصين للكيل والوزن، يقال‏:‏ أخسرت الكيل والوزن‏:‏ أي نقصته، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 3‏]‏، ثم زاد سبحانه في البيان، فقال ‏{‏وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم‏}‏ أي أعطوا الحقّ بالميزان السويّ، وقد مرّ بيان تفسير هذا في سورة سبحان، وقد قرئ‏:‏ ‏{‏بالقسطاس‏}‏ مضموماً، ومكسوراً ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ‏}‏ البخس النقص، يقال‏:‏ بخسه حقه‏:‏ إذا نقصه، أي لا تنقصوا الناس حقوقهم التي لهم، وهذا تعميم بعد التخصيص، وقد تقدّم تفسيره في سورة هود، وتقدّم أيضاً تفسير ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ‏}‏ فيها، وفي غيرها ‏{‏واتقوا الذى خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين‏}‏ قرأ الجمهور بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن والأعرج وشيبة بضمهما وتشديد اللام، وقرأ السلمي بفتح الجيم مع سكون الباء‏.‏ والجبلة‏:‏ الخليقة قاله مجاهد، وغيره يعني‏:‏ الأمم المتقدّمة، يقال‏:‏ جبل فلان على كذا أي خلق‏.‏ قال النحاس‏:‏ الخلق يقال له جبلة بكسر الحرفين الأوّلين وبضمهما مع تشديد اللام فيهما، وبضم الجيم وفتحها وسكون الباء، قال الهروي‏:‏ الجِبِلَّة والجُبْلَة والجِبِلّ والجُبُلّ لغات، وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جِبِلاًّ كَثِيراً‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 62‏]‏ أي‏:‏ خلقاً كثيراً، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

والموت أعظم حادث *** فيما يمرّ على الجبلة

‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين * وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا‏}‏ قد تقدّم تفسيره مستوفى في هذه السورة‏.‏ ‏{‏وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين‏}‏‏:‏ «إن» هي المخففة من الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدّر، واللام هي الفارقة أي فيما تدّعيه علينا من الرسالة، وقيل‏:‏ هي النافية، واللام بمعنى إلاّ أي ما نظنك إلاّ من الكاذبين، والأوّل أولى‏.‏ ‏{‏فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء‏}‏ كان شعيب يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا، فقالوا له هذا القول نعتاً واستبعاداً وتعجيزاً‏.‏ والكسف‏:‏ القطعة‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الكسف‏:‏ جمع كسفة مثل سدر وسدرة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الكسفة القطعة من الشيء، يقال‏:‏ أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كسف، وقد مضى تحقيق هذا في سورة سبحان‏.‏

‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في دعواك ‏{‏قَالَ رَبّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الشرك، والمعاصي، فهو مجازيكم على ذلك إن شاء، وفي هذا تهديد شديد ‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏، فاستمروا على تكذيبه، وأصرّوا على ذلك ‏{‏فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة‏}‏، والظلة‏:‏ السحاب، أقامها الله فوق رؤوسهم، فأمطرت عليهم ناراً، فهلكوا، وقد أصابهم الله بما اقترحوا؛ لأنهم إن أرادوا بالكسف القطعة من السحاب فظاهر، وإن أرادوا بها القطعة من السماء، فقد نزل عليهم العذاب من جهتها، وأضاف العذاب إلى يوم الظلة لا إلى الظلة تنبيهاً على أن لهم في ذلك اليوم عذاباً غير عذاب الظلة، كذا قيل‏.‏ ثم وصف سبحانه هذا العذاب الذي أصابهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ لما فيه من الشدّة عليهم التي لا يقادر قدرها، وقد تقدّم تفسير قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ في هذه السورة مستوفى، فلا نعيده، وفي هذا التكرير لهذه الكلمات في آخر هذه القصص من التهديد والزجر والتقرير والتأكيد ما لا يخفى على من يفهم مواقع الكلام ويعرف أساليبه‏.‏

وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم‏}‏ قال‏:‏ تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال وأدبار النساء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة نحوه‏.‏ وأخرجا أيضاً عن قتادة‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين‏}‏ قال‏:‏ هي امرأة لوط غبرت في عذاب الله‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد «ليكة» قال‏:‏ هي الأيكة‏.‏ وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ المرسلين‏}‏ قال‏:‏ كانوا أصحاب غيضة من ساحل البحر إلى مدين ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ‏}‏، ولم يقل‏:‏ أخوهم شعيب‏.‏ لأنه لم يكن من جنسهم ‏{‏أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏‏:‏ كيف لا تتقون وقد علمتم أني رسول أمين، لا تعتبرون من هلاك مدين، وقد أهلكوا فيما يأتون‏؟‏ وكان أصحاب الأيكة مع ما كانوا فيه من الشرك استنوا بسنة أصحاب مدين، فقال لهم شعيب‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْئَلُكُمْ‏}‏ على ما أدعوكم إليه ‏{‏مِنْ أَجْرٍ‏}‏ في العاجل من أموالكم إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏.‏ ‏{‏واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين‏}‏ يعني‏:‏ القرون الأوّلين الذي أهلكوا بالمعاصي، ولا تهلكوا مثلهم‏.‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين‏}‏ يعني من المخلوقين‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء‏}‏ يعني‏:‏ قطعاً من السماء ‏{‏فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة‏}‏ أرسل الله إليهم سموماً من جهنم، فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر، فحميت بيوتهم، وغلت مياههم في الآبار، والعيون، فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين، والسموم معهم، فسلّط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم، فغشيتهم حتى تقلقلت فيها جماجمهم، وسلّط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا جميعاً أطبقت عليهم فهلكوا ونجى الله شعيباً والذين آمنوا معه‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ ‏{‏والجبلة الأولين‏}‏‏:‏ الخلق الأوّلين‏.‏

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة‏}‏ قال‏:‏ بعث الله عليهم حرًّا شديداً، فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا أجواف البيوت، فدخل عليهم أجوافها فأخذ بأنفسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة، فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها برداً ولذة، فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقط الله عليهم ناراً، فذلك عذاب يوم الظلة‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً قال‏:‏ من حدّثك من العلماء عذاب يوم الظلة، فكذبه‏.‏ أقول‏:‏ فما نقول له رضي الله عنه فيما حدّثنا به من ذلك مما نقلناه عنه ها هنا‏؟‏ ويمكن أن يقال‏:‏ إنه لما كان هو البحر الذي علّمه الله تأويل كتابه بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم كان مختصاً بمعرفة هذا الحديث دون غيره من أهل العلم، فمن حدّث بحديث عذاب الظلة على وجه غير هذا الوجه الذي حدّثنا به، فقد وصانا بتكذيبه، لأنه قد علمه، ولم يعلمه غيره‏.‏